العقوبة البدیلة للعقوبة الانضباطیة فی الوظیفة العامة | ||
الرافدین للحقوق | ||
Article 4, Volume 23, Issue 76, September 2021, Pages 94-116 PDF (857.83 K) | ||
Document Type: بحث | ||
DOI: 10.33899/alaw.2020.127575.1086 | ||
Author | ||
درید عیسى ابراهیم* | ||
قسم القانون - کلیة الامام الاعظم الجامعة | ||
Abstract | ||
تأثرت الاتجاهات التشریعیة فی النظم العقابیة بأفکار حدیثة نسبیاً تتمثل بإیجاد ما یعرف بالعقوبات البدیلة التی تفرض عوضا عن العقوبات الاصیلة لفشل هذه الأخیرة فی واجب اصلاح المحکوم علیه وتأهیله، فضلاً عن الآثار السلبیة الاخرى التی ترافق تنفیذها. ولا خلاف على أهمیة الوظیفة العامة ودورها فی النهوض بحیاة المجتمعات، وعلى هذا تحاط هذه الوظیفة بتأطیر قانونی، تتحدد فیه المراکز القانونیة، ویتکفل المشرع بوضع نظام جزائی خاص لطائفة الموظفین العمومیین، یعرف بالنظام الانضباطی، تحدد فیه العقوبات التی تفرض على الموظف ان خالف واجباته الوظیفیة. ومن ثم فان النظام الانضباطی بوصفه احد النظم العقابیة یتأثر حتما بتلک الأفکار والاتجاهات الحدیثة، وعلى هذا فأن مسألة تبنی فکرة العقوبات البدیلة فیه أصبحت على قدر من الأهمیة لما قد یترتب علیها من آثار مماثلة تسهم فی تقویم سلوک الموظف وإصلاح الوظیفة العامة، وهذا ما یجعله من المواضیع الجدیرة بالاهتمام والبحث. | ||
Keywords | ||
سیاسة جزائیة; وظیفة عامة; عقاب | ||
Full Text | ||
العقوبة البدیلة للعقوبة الانضباطیة فی الوظیفة العامة-(*)- Alternative Punishment to Disciplinary Procedures in Public Service
(*) أستلم البحث فی 9/7/2020 *** قبل للنشر فی 13/8/2020. (*) Received on 9/7/2020 *** accepted for publishing on 13/8/2020. Doi: 10.33899/alaw.2020.127575.1086 © Authors, 2021, College of Law, University of Mosul This is an open access articl under the CC BY 4.0 license (http://creativecommons.org/licenses/by/4.0). المستخلص تأثرت الاتجاهات التشریعیة فی النظم العقابیة بأفکار حدیثة نسبیاً تتمثل بإیجاد ما یعرف بالعقوبات البدیلة التی تفرض عوضا عن العقوبات الاصیلة لفشل هذه الأخیرة فی واجب اصلاح المحکوم علیه وتأهیله، فضلاً عن الآثار السلبیة الاخرى التی ترافق تنفیذها. ولا خلاف على أهمیة الوظیفة العامة ودورها فی النهوض بحیاة المجتمعات، وعلى هذا تحاط هذه الوظیفة بتأطیر قانونی، تتحدد فیه المراکز القانونیة، ویتکفل المشرع بوضع نظام جزائی خاص لطائفة الموظفین العمومیین، یعرف بالنظام الانضباطی، تحدد فیه العقوبات التی تفرض على الموظف ان خالف واجباته الوظیفیة. ومن ثم فان النظام الانضباطی بوصفه احد النظم العقابیة یتأثر حتما بتلک الأفکار والاتجاهات الحدیثة، وعلى هذا فأن مسألة تبنی فکرة العقوبات البدیلة فیه أصبحت على قدر من الأهمیة لما قد یترتب علیها من آثار مماثلة تسهم فی تقویم سلوک الموظف وإصلاح الوظیفة العامة، وهذا ما یجعله من المواضیع الجدیرة بالاهتمام والبحث. الکلمات المفتاحیة: سیاسة جزائیة، وظیفة عامة، عقاب. Abstract This article addresses the idea of how alternative punishments can be adopted judicially instead of the primary punishments. The need for adopting the alternative punishments comes into exist when the primary punishments have failed to achieve its main goals to reform and rehabilitate the convict, as well as other negative effects that accompany its implementation. There exists almost a consensus about the importance of the public employment and its role in improving the life of societies. On this basis, this employment is surrounded by a legal framework, determined in the rights and duties of the public employee. The legislator shall guarantee the establishment of a special penal system for the group of public officials, known as the disciplinary system, in which the penalties imposed on the employee shall be specified if job duties has been breached. Therefore, the disciplinary system as one of the punitive systems is inevitably affected by these modern ideas and trends. Accordingly, the issue of adopting the idea of alternative penalties in it becomes of importance because of similar effects that may contribute to evaluating the employee’s behavior and reforming the public employment, which prompts us to allocate a specialized study for this subject. Key words: Penal Policy, Public Employment, Punishment. المقدمـة تعد العقوبة بما تحمله ضرورة یعتمدها المشرع عنصراً أساساً فی تبنی سیاسته الجزائیة، ولقد أقر فی المفهوم التقلیدی أن تشدید العقاب یمثل الحل الأکثر نجاعة فی حمایة المجتمع وصیانة مصالحه العلیا من الاعتداء علیها، فالعقاب فی هذا المفهوم کفیل بأن یکون سبباً فی تحقیق الردع، باجتناب أفراد المجتمع الوقوع فی حومة الجریمة، وکلما کان طابع القسوة شدیداً فی فرض العقاب کان تحقیق الردع أکثر فاعلیة. بید أن هذا المفهوم قد لا یستقیم مع ارتفاع معدل الجرائم باختلافها، ذلک إن عنصر العقاب لا یمثل وحده تعبیراً عن سیاسة جزائیة صالحة، اذ لا یکتمل مفهوم هذه السیاسة من دون عنصر الوقایة او التأهیل والإصلاح بحسبانه المرتکز الثالث فی هذا الاطار، فاصبح الهدف فی المؤسسات العقابیة الإصلاح والتأهیل ولیس تنفیذ الاحکام فحسب، وهذا ما جعل فکرة تبنی عقوبات بدیلة تسهم فی هذا الغرض أیضا. واذا کان الامر یسیر على هذا الهدی، فان ما یتبادر إلى الذهن مدى امتداد فکرة العقوبات البدیلة إلى النظام الانضباطی فی إطار الوظیفة العامة بحسبانها أحد النظم الجزائیة لحمایة الوظیفة العامة وانتظام سیر المرافق العامة. فهذا النظام على الرغم من خصوصیته فی تحدید المخالفات وفرض العقاب، إلا إنه یتفق مع غایات کل نظام جزائی فی تقویم سلوک المخاطبین بأحکامه، ومن ثم فان البحث عن عقوبات بدیلة فیه تکفل تحقیق عنصر الوقایة والإصلاح والتأهیل یحتاج إلى الوقوف على تأصیل فکرة هذه العقوبات فی النظام الانضباطی وتناول صورها المقترحة. زد على ذلک إن المشرع عند تبنیه لقواعد العقاب فی النظام الانضباطی بسط یدیه للموظف المخالف لیقف مجددا على سلوکه الوظیفی، ویعید النظر فیه تقویما واصلاحاً، من خلال بعض المفاهیم السائدة فی هذا النظام کما فی مفهوم محو العقوبة الانضباطیة، وهذا ما یدعو الى التأمل فی استبدال العقوبات الاصیلة بأخرى تقود إلى غرض التقویم والإصلاح نفسه. أهمیة الدراسة: تنبع أهمیة الموضوع فی کونها تهدف إلى توطین فکرة العقوبات البدیلة فی النظام الانضباطی، بما یتوافق مع المبادئ والقواعد السائدة فی هذا النظام، وکذلک البحث عن صور لعقوبات بدیلة یمکن أن تحل بدلا من العقوبات الانضباطیة الاصیلة، من اجل قیام سیاسة جزائیة ناجعة فی هذا النظام، تکفل اصلاح سلوک الموظف، ومن ثم مدى إمکانیة تبنیها على وفق الأسباب والغایات التی تقوم علیها العقاب فی النظام الانضباطی. مشکلة البحث: إن مشکلة البحث تبدو ظاهرة فی مدى إمکانیة تبنی مفهوم العقوبات البدیلة فی النظام الانضباطی بما یهدف الى تحقیق غایات هذا النظام فی تقویم السلوک الوظیفی للموظف العام بما یعود بالخیر على سیر المرافق العامة. وهل أن الضرورة لازمة فعلا للأخذ بهذا المفهوم أم کفایة السیاسة الانضباطیة الحالیة، بما یغنی عن أن یتأثر النظام الانضباطی بالأفکار والمفاهیم الناشئة فی السیاسة الجزائیة الحدیثة.
منهجیة البحث: سنعمد تبعا لعنوان البحث إلى اعتماد المنهج الاستنباطی (التحلیلی) والمنهج المقارن عبر دراسة القواعد العامة للعقوبات البدیلة فی النظم الجزائیة وتطبیقها على النظام الانضباطی على وفق الأهمیة المتوخاة من هذا البحث. هیکلیة البحث: على وفق ما تم عرضه من أهمیة لهذا البحث والمشکلة الخاصة به والمنهجیة المعتمدة فیه، سوف نعتمد هیکلیة تقوم على مبحثین اثنین، نخصص الأول منهما للبحث فی مفهوم العقوبات البدیلة وصورها، ومن ثم ننتقل بعدها فی المبحث الثانی إلى البحث فی تطبیق فکرة العقوبات البدیلة فی النظام الانضباطی، نتناول فیه المبررات التی یمکن الاستناد إلیها فی تبنی هذه الفکرة، وصولا الى طرح صور لتلک العقوبات فی هذا النظام. المبحث الأول ماهیة العقوبات البدیلة منذ أن عرف الانسان مفهوم العقوبات فی أول صورها جزاءً لما تقارفه إرادة المجرم الاثمة، نجد أنها بدت فی صورة عقوبات بدنیة بصورة قطعیة، وکان الغرض من إیقاع الجزاء الحاق الأذى بالجانی، ومن ثم لم تکن الغایة من نظم العقاب سوى الانتقام. ومع التطورات التی رافقت البشریة وظهور الدولة ومن ثم تقدم المجتمعات والعنایة بحقوق الانسان، والتطور الذی نالته هذه الحقوق من حیث إقرارها وتطبیقها فی التنظیم الدولی والتشریع الوطنی، ومن ثم ظهور ما یعرف بأجیال من حقوق الانسان، وما رافق ذلک من تغییر نظرة المجتمع إلى شخص الجانی، وهذا ما تبدى من خلال بناء سیاسة جزائیة قوامها الإصلاح والتأهیل بهدف إعادة الجانی الى أحضان المجتمع فرداً صالحاً یسهم فی بنائه وتطوره. واتساقا مع ذلک المفهوم برزت دعوات إلى إعادة النظر فی بعض صور العقوبات بما یتفق مع تلک الغایات لاسیما فی العقوبات السالبة للحریة، فضلاً عن أن الدراسات والأبحاث بینت إن صور العقاب الاصلیة لم تکن رادعة فی الحد من الجرائم. ثم أن هناک من الجرائم ما لیست على قدر من الأهمیة وإن العقاب عنها ولو بعقوبات سالبة للحریة على نحو قصیر یترک اثاراً سلبیةً على المحکوم علیه وعلى أسرته ووضعه داخل المجتمع. ومن ثم کان من الضرورة تحقیق موازنة بین تلک الضرورات وبین ضرورة إیقاع العقاب کأحد عناصر السیاسة الجزائیة. ومن هنا برزت فکرة العقوبات البدیلة وتبلورت من خلال تبنی المشرع لها فی مجموعة من الدول، على وفق الأوضاع الاجتماعیة والاقتصادیة والسیاسیة فی کل منها، وهو ما یدلل على نجاعتها فی تحقیق الإصلاح والوقایة والتأهیل. وعلى ذلک سوف نخصص هذا الجزء من البحث للوقوف على مفهوم هذا العقوبات وصورها فی مطلبین، وعلى التفصیل الاتی: المطلب الأول مفهوم العقوبات البدیلة بالنظر لبعض الآثار السلبیة التی أفصحت عنها العقوبات الاصیلة، ولتعاظم الآراء التی قیلت باللجوء الى أسالیب جدیدة للعقاب، ومن أجل إعطاء ابعاد تأهیلیة –أکثر تأثیراً- للسیاسة الجزائیة وترشید العقاب، فقد برزت دراسات تدعو إلى الحد من العقاب، قامت على أفکار المدرسة الوضعیة التی هدفت الى أن تحل التدابیر الاحترازیة بدیلاً عن العقوبة([1])، ومن ثم فی تطور لاحق الدعوة الى ان تستبدل العقوبات الاصیلة بأخرى، بما ینسجم مع اصلاح الجانی، وکذلک إعطاء ابعاد تأهیلیة للعقوبة على نحو بالغ، فی ظل عدم القدرة على تحقیق هذا الهدف فیما لو تم الإبقاء على العقاب على صوره الحالیة. ومن أجل الإحاطة بهذه العقوبات سنخصص هذا الجزء من البحث للوقوف على طبیعة العقوبات البدیلة، ومن ثم البحث عن مبررات التوجه نحوها وتبنیها فی النظم العقابیة، وعلى النحو الاتی:- أولا- الطبیعة القانونیة للعقوبات البدیلة: تقوم الفکرة الجوهریة للعقوبات البدیلة على البحث عن أسالیب جدیدة للعقاب فی العقوبات السالبة للحریة، وهی بهذا المفهوم لا تختلف عن العقوبات الاصیلة فی انهما جزاء یفرضه القانون ویحکم به القاضی على من یرتکب فعلا مجرماً قانونا. ومن هنا فان العقوبات البدیلة تخضع للمبادئ والاحکام نفسها التی تقوم علیها العقوبات الاصیلة، فلابد ان تکون مقررة بنص قانونی وان تکون شخصیة تنال المجرم نفسه وان یوقعها القضاء، غیر أن ما تنماز به هذه العقوبات هو رضاء المحکوم علیه بها، فبدون هذا الرضا لا یستطیع القضاء فرضها، اذ سیتم إیقاع العقوبة الاصیلة علیه فی هذه الحال. وإذا أمعنا النظر فی جوهر کل من هذین النوعین من العقاب نجد ان العقوبة الاصیلة تقوم على فکرة الایلام من اجل إصلاح المحکوم علیه ومن ثم اعادة تأهیله عبر ما تتبناه المؤسسات الإصلاحیة من خطط تأهیل وارشاد، أما العقوبة البدیلة فهو تقوم فکرة ایجاد ایلام من نوع خاص یشتمل على إعادة تأهیل المحکوم علیه من دون أن یرافق ذلک سلبا لحریته بوضعه فی مؤسسة إصلاحیة، وبما ینمی شعوره بالمسؤولیة تجاه المجتمع عن فعله المرتکب([2]). اذا ان کل ما فی الامر ان السیاسة الجزائیة المعاصرة توجب إعادة النظر ملیا برسم حدود جدیدة لها عبر إیجاد طرق أخرى من العقاب اکثر تحقیقا لمفهوم تلک السیاسة فی العقاب والإصلاح والتأهیل([3]). وقد تباینت وجهات النظر فی تحدید الطبیعة القانونیة للعقوبات البدیلة، اذ ان منهم من یرى ان هذه العقوبات ما هی الا تدابیر احترازیة، فیما یرى اخرون ان هذه البدائل یمکن ان تتضمن آثاراً مالیة ومعنویة([4]).
ویرى جانب آخر إن العقوبات البدیلة ما هی إلا بدائل جنائیة تدخل فی اطار القوانین العقابیة، اذ تضم بدائل عن العقوبات المقیدة للحریة، کما تضم أیضا مجموعة من التدابیر الوقائیة یجری فرضها، کما هو فی تأجیل النطق بالعقوبة ووقف التنفیذ([5]). وکذلک الحال فیما یتعلق بالإفراج الشرطی فهو: نظام قانونی قضائی قوامه اصلاح وتأهیل المحکوم علیه والاخذ بیده للاندماج فی المجتمع من خلال الافراج عنه لما تبقى من مدة العقوبة السالبة للحریة، فهو تعدیل فی أسلوب المعاملة العقابیة للعقوبات السالبة للحریة تقتضیه اعتبارات التأهیل، فهو یمثل وضع انتقالی بین سلب الحریة فی المؤسسة الإصلاحیة وبین تمتع المحکوم علیه بالحریة الکاملة([6])، إذ لا یعنی الشمول بالإفراج الشرطی أن العقوبة قد انقضت، کما انه لا یمثل تنازل الدولة - بحسبانها ممثلة للمجتمع- عن العقاب([7])، لأنه لا یکون نهائیا إلا حین تنقضی مدته بغیر اخلال بشروطه من المحکوم علیه([8]). وعلى ذلک یرى الباحث ان من الواجب التفریق بین مفهوم العقوبات البدیلة وبین بعض المفاهیم التی ترمی الى تحقیق غایات سیاسة جزائیة ناجعة، فالنظام الجزائی لا یزال یقر بدور العقوبة الأخلاقی والتربوی، لأنها تحقق الردع ومن ثم رضا وشعور الناس بالعدل، وان ذلک یتحقق بالعقوبة على نحوٍ أبلغ، فضلاً عن إن التدبیر الاحترازی هو: اجراء یحدده المشرع ویضع شروط فرضه من أجل مواجهة خطورة إجرامیة تنطوی علیها شخصیة مرتکب الجریمة بهدف درئها عن المجتمع([9])، فهو لا یحمل طابع الایلام، ومن هنا یختلف مفهومه عن مفهوم العقوبة. ثانیا- مبررات تبنی العقوبات البدیلة: لاقت فکرة العقوبات البدیلة تأییداً لها فی العقوبات السالبة للحریة، وعلى وجه الخصوص تلک التی تنطوی على مدد قصیرة، إذ طرح مؤیدوها تبریرات –تبدو منطقیة- للأخذ بها، ومن أبرزها: 1- إن العقوبة السالبة للحریة – قصیرة المدى- لا تتیح تنفیذ برامج الإصلاح والتأهیل للمحکوم علیه، لأن تلک البرامج تتضمن جوانب طبیة ومهنیة ونفسیة، وان تطبیقها یستلزم بالضرورة وقتا حتى تنضج ثمرتها، وهذا ما قد لا یتحقق فی هذه العقوبة([10]). 2- إذا کان من شأن العقوبة تحقیق الردع العام والردع الخاص، فان هذه الغایة لا تتحقق فی مجموعة من العقوبات السالبة للحریة، إذ لا یمکن ضمان تحقیق الردع الخاص بالنسبة للمحکوم علیه؛ إما لأنه لم یعد یکترث لأمر العقاب أصلاً، أو لأن نتائج هذه العقوبة تکون سلبیة لما قد یترتب على تنفیذ العقوبة هنا من اختلاطه مع مجرمین أشد خطورة واکتسابه ثقافة إجرامیة، فضلاً عن نظرته نحو المجتمع ورغبته فی الانتقام منه([11])، وهذا ما نتلمس آثاره فی زیادة اعداد حالات العود بما یعنی فشل العقوبة فی تحقیق عامل الردع والوقایة الفردیة أو الجماعیة من الجریمة([12]). إذ لم تحقق العقوبات السالبة ولا حتى العقوبات البدنیة الأخرى غایاتها فی الحد من الجریمة واصلاح المجرمین، وهذا ما توحی به زیادة معدلات الجریمة فی العراق وبعض الدول. 3- إن هناک من العقوبات ما یتجاوز آثارها المحکوم علیه، إذ تمتد إلى عائلته فتلحق بأفرادها المشکلات النفسیة والاقتصادیة والاجتماعیة([13]). 4- بروز ظاهرة التضخم التشریعی فی تجریم أفعال رأى المشرع أنها تهدد النظام العام ومصالح المجتمع فتولاها بالعقاب، وعلى نحوٍ خاص الجرائم الاقتصادیة ومثالها: جرائم التهرب الضریبی والتهریب الکمرکی وجرائم المرور والبیئة والصحة، وفی الحقیقة إن هذه الأفعال المجرمة لا تمس قیماً ومصالح على قدر بالغ الأهمیة للمجتمع بالشکل الذی یؤثر على استقراره([14])، وأن هذا لیدفع باتجاه البحث عن بدائل للعقوبات المقررة لتلک الجرائم. والحقیقة انه لیس فی هذه الصور من العقاب ما یهدد الأساس القانونی لقانون العقوبات ذاته، ومن ثم فان وجود العقاب على الرغم من تغییر صورته یکفل للقاعدة القانونیة خصائصها الممیزة بعنصر الجزاء، دون أن تنحدر الى مرتبة القواعد الاجتماعیة والاخلاقیة([15]). ویرى الباحث إن تلک التبریرات تتفق مع التطورات الحاصلة فی الغرض من فرض العقوبة، بأن أصبحت أداة لإصلاح المحکوم علیه، فاحترام الفرد لمجتمعه لا یتوقف على مجرد اثر العقوبة، بل إن ذلک یتوقف على ضرورة خلق مناخ ملائم للأفراد یسهم فی تعزیز القیم الاجتماعیة، فتکون وازعاً یجول فی الذهن قبل الاقدام على مخالفة القانون، کما انها تکفل تحقیق الردع الخاص، إذ بمجرد فرض هذه العقوبات على المحکوم علیه تتولد لدیه فکرة التأهیل والعودة لیکون اکثر اتصالا بمجتمعه، ثم ان هذه العقوبات تعد أداة مهمة بید القضاء لتفرید العقاب، وکل ذلک یسهم فی عودته فردا صالحا داخل المجتمع.
المطلب الثانی صور العقوبات البدیلة بادئ ذی بدء، نجد من الضروری بیان إن العقوبات البدیلة یمکن أن تتعدد بما یناسب فکرة المشرع من وراء تبنیها، وقد یکون للظروف الاجتماعیة والاقتصادیة والسیاسیة أثر بالغ فی ذلک التعدد. وقد یرجع هذا التعدد والتباین فی صور العقوبات البدیلة إلى اختلاف وجهات النظر بین الفقهاء والباحثین فی مجال القانون فی تحدید الطبیعة القانونیة للعقوبات البدیلة، کما بدا سابقا، وعلى ذلک سوف نبحث فی الصور الاتیة، بحسبانها الأکثر انسجاما مع مفهوم للعقوبات البدیلة.
أولا- الجزاءات المالیة(الغرامات): یراد بها الجزاء الذی یفرض على الجانی ویلزمه بدفع مبلغ من المال - یقدر فی قرار الحکم- الى خزینة الدولة. والاصل ان تأتی هذه العقوبة بصورة اصلیة أو تکمیلیة، غیر أنها یمکن أن تأخذ صورة العقوبة البدیلة حینما یتم فرضها بهذه الصفة، بمعنى أن یتم استبدال هذه العقوبة محل العقوبات السالبة للحریة. ویلحظ أن هذه الصورة من ابلغ البدائل المقررة للعقوبات الاصیلة، وهی تنبه الجانی إلى سلوکه المشین بالنسبة للمجتمع، فضلاً عن أنها تحقق أغراض العقوبة التی تم استبدالها، لأن العقوبة المستبدلة فی الأصل لم تحقق هدف الإصلاح والتأهیل. ومن تطبیقات ذلک فی التشریع العراقی ما یعرف بالتسویة الصلحیة التی تجد مجالها فیما یجری بین الإدارة الضریبیة والمکلف المخالف فی القوانین الضریبة([16])، على ان فرض الغرامة هنا یجری بقرار اداری ولیس بحکم قضائی. ثانیا- العمل فی خدمة المجتمع: تعد هذه الصورة من النظم الحدیثة للمعاملة العقابیة، ومؤداها الزام المحکوم علیه بان یعمل لخدمة المجتمع المدة التی تقررها المحکمة بدون أجر یقابل هذه الخدمة. وقد عرفت هذا النوع من العقاب التشریعات الجزائیة فی العدید من الدول، ومنها: فرنسا([17]) وبلجیکا وهولندا وألمانیا والتشریعات الانجلو امریکیة (الولایات المتحدة الامریکیة وانکلترا وکندا)، کما تبناها جانب من الدول العربیة ومثالها: مصر([18]) والامارات العربیة المتحدة([19]) ولبنان([20]) ، اما فی العراق فلم نجد فی قانون العقوبات النافذ ولا فی غیره من التشریعات العقابیة صراحة او دلالة على تبنی المشرع لهذا النوع من العقوبات. والسمة البارزة فی فرض هذه العقوبة أنها تجری إما بموافقة المحکوم علیه أو بطلب منه، وذلک احتراماً من المشرع للاتفاقیات والمواثیق الدولیة، فی أن لا یتم أداء الانسان لأعمال السخرة أو جبراً، ومثال ذلک ما جاء فی الإعلان العالمی لحقوق الإنسان لسنة 1948([21])، والعهد الدولی الخاص بالحقوق المدنیة والسیاسیة لسنة 1966([22])، على عدم جواز إکراه أحد على السخرة أو العمل الإلزامی، وکذلک ما جاء فی الاتفاقیة الاوربیة لحقوق الانسان لسنة 1950([23]). ثالثا- المراقبة الالکترونیة: لقد کان من شأن التطور العلمی والتقنی ان یلقی بظلاله على صور العقوبات البدیلة، إذ نشأت صورة تعتمد على التقنیات الالکترونیة فی العقاب، وهو ما یعرف بالمراقبة الالکترونیة([24]) أو باسم الحبس فی القید أو السوار الالکترونی. ویتاح فی هذا النظام تنفیذ عقوبة الحبس فی منزل المحکوم علیه بعیداً عن نطاق المؤسسة الإصلاحیة، مع اخضاعه لمجموعة من الالتزامات وفرض القیود على تحرکاته من خلال جهاز المراقبة([25]). وبعیداً عن الجدل الذی یتجاذب دور هذه العقوبة البدیلة فی التأهیل والاصلاح([26])، إلا أن اتجاه مجموعة من الدولة إلى تبنی هذا النوع من العقاب کصورة بدیلة عن العقوبات الاصیلة، مع وضع شروط وضوابط لتطبیقه، والمتابعة الجدیة، یمکن أن تجعله من العقوبات البدیلة الفاعلة.
المبحث الثانی تطبیق فکرة العقوبات البدیلة فی النظام الانضباطی إن ما یتبادر إلى الذهن هو مدى امتداد فکرة العقوبات البدیلة الى النظام الانضباطی فی الوظیفة العامة بحسبانه أحد النظم الجزائیة لحمایة مصالح المجتمع، ومن ثم ینبغی أن تسیر سیاسة المشرع فی النظم الجزائیة جنباً إلى جنب، وان کان هناک اختلاف نسبی فیها، لکن مقومات التجریم والعقاب والإصلاح هی نفسها. فان الامر یدعو إلى الوقوف والتأمل فی النظام الانضباطی ومحاولة مقاربة تطبیق فکرة العقوبات البدیلة فیه. وإن محاولة ولوج هذا الجانب والبحث فیه یقتضی أن نقف على مبررات تبنی فکرة العقوبات البدیلة فی النظام الانضباطی، ولعل الأمر یستطیل إلى البحث عن صورة لهذه العقوبات یمکن أن تحل بدلاً عن العقوبات الاصیلة فی هذا النظام، ومن أجل ذلک سنتناول فی هذا المبحث کل من تلک المبررات والصور على التقسیم الاتی: المطلب الأول مبررات تطبیق فکرة العقوبات البدیلة فی النظام الانضباطی لیس من المبالغة فی شیء أن نبحث فی الدراسات القانونیة عن مبررات وأسباب تطبیق الأفکار والمفاهیم القانونیة فی أحد المجالات القانونیة، ولأننا نحاول مقاربة تطبیق فکرة العقوبات البدیلة فی النظام الانضباطی، فلا بد من أن نبحث عن مبررات هذا التطبیق، وعلى وجه خاص إننا نعلم ما لهذا النظام من ذاتیة ینفرد بها منبعها ذاتیة القانون الإداری فی الأصل. وعلى ذلک سوف نعمل على أن نضع على بساط البحث تقدیم المبررات التی تدفع إلى الأخذ بفکرة العقوبات البدیلة هنا، واضعین فی الاعتبار کل ما یتعلق بطبیعة النظام الانضباطی وتأطیره القانونی، لنخلص فیما بعد إلى مدى وجاهة تلک المبررات، ومن ثم التفکیر جدیاً نحو الأخذ بهذه الفکرة، وسوف نعرض هذه المبررات على النحو الاتی: 1- على الرغم من اختلاف بعض الأسس والقواعد فی النظام الانضباطی، إلا إنه یوصف بأحد نظم العقاب، ومن ثم فان الکثیر من التطورات فی الأفکار والمفاهیم التی تسود هذه النظم حتما تلامس النظام الانضباطی، فیناله ما ینالها. وان انتهاج سیاسیة جزائیة تقوم على فکرة الإصلاح والتأهیل فی فرض العقاب، أو الانصراف إلى عقوبة بدیلة لعدم نجاعة العقوبة الاصیلة فی تحقیق اغراضها فی استیعاب مفهوم الوقایة والمنع والإصلاح والتأهیل ضمن هذه السیاسة. ولئن کانت هناک عقوبات بدیلة عن العقوبات السالبة للحریة، فلماذا لا نأخذ هذا المسلک فی النظام الانضباطی، وعلى وجه الخصوص بدلاً عن بعض العقوبات التی لها تأثیر یمتد الى عائلة الموظف فتلحق بها المشکلات نفسها التی تلحق بالمحکوم علیه -على النحو الذی تم تبیانه سابقا، ومن ثم لا تثریب ان طبقنا فکرة العقوبات البدیلة فی هذا النظام على الرغم من اختلاف طبیعته عن غیره من نظم العقاب. 2- إن فلسفة النظام الانضباطی لا تستهدف العقاب فی ذاته، وانما تنصرف إلى ضمان سیر المرافق العامة بانتظام واضطراد، وهذا یستتبع فی الأساس البحث عن أسباب وقوع المخالفة الانضباطیة، فلعل ذلک یکون مرتبطاً فی اصله بسوء التنظیم داخل المرفق العام، أو عدم تحدید الاختصاصات على نحو دقیق، أو عدم قیام الإدارة بتأهیل الموظف العام وتدریبه([27])، ومن ثم تکون وطأة العقوبة ولو کانت ادناها مؤثرة فی سیرة الموظف، ولها تأثیر سلبی على أداء وجباته الوظیفیة طالما سیشعر بتحمل وزر هذا الامر لوحده. فاذا کانت المخالفة واقعة لا محال، وان أسباب المخالفة قد لا ترتبط بالموظف لوحده، وان من دوام انتظام المرفق العام فرض العقوبة على المخالف، فان تصویب عمل المرفق العام قد یقتضی فرض عقوبات بدیلة بما یضمن حسن سیره واستمراره فی تقدیم الخدمة للمجتمع. 3- یتفرد النظام الانضباطی بذاتیة خاصة عن نظم العقاب، مما یدعونا إلى القول بإمکانیة تطبیق العقوبات البدیلة تأسیسا على تلک الذاتیة، وهذا ما نلمسه فی فکرة محو أو الغاء العقوبة الانضباطیة، إذ تجیز التشریعات للإدارة محو هذه العقوبة او الغائها فی حالات على وفق شروط معینة، مثال ذلک مرور فترة زمنیة معینة على فرض العقوبة، وقیام الموظف المعاقب خلالها بتأدیة اعمال متمیزة عن زملائه، فضلاً عن عدم معاقبته خلال هذه المدة الزمنیة([28])، وکذلک قد یتم الغاء (محو) العقوبة عند الحصول على کتب الشکر([29]). ولرب قائل أن هناک أثراً إیجابیاً ترتب على فرض العقوبة الانضباطیة على الموظف، بان أصبح سلوکه مرضیا مما یبرر محو أو الغاء العقوبة. إلا أننا نجد إن فی فرض عقوبات بدیلة ما یمکن معه تحقیق هذا الأثر واکثر، فقد نحصل على أثر إیجابی أبلغ من خلال فرض العقاب البدیل، إذ یتم فیه بذل جهود متمیزة من قبل الموظف المعاقب، فضلاً عن إن المحو یستلزم مرور مدة زمنیة، وهذا ما یعنی أن آثار العقوبة على عائلة الموظف ووضعه الاجتماعی لا تزال قائمةً حتى یصدر قرار بالمحو أو الإلغاء. زد على ما سبق إن تطبیق المحو وإلغاء العقوبات الانضباطیة- على الرغم من الموضوعیة التی تبناها المشرع هنا- یخضع لاعتبارات شخصیة إلى حد ما، إذ طالما أن هذا الامر منوط بتحقق شروط، الا ان مسألة توافرها من حیث قیام الموظف بأعمال متمیزة عن اقرانه، أو منح کتب الشکر له هو من اطلاقات السلطة التقدیریة للإدارة، ولا غضاضة فی القول إن انحراف الإدارة فی استعمال سلطتها وارد جداً، ومن ثم نعتقد إن تطبیق العقوبات البدیلة سوف یکون أکثر انسجاماً مع فلسفة وذاتیة النظام الانضباطی. 4- صحیح أن النظام الانضباطی یعطی للموظف فرصة لإعادة النظر فی سلوکه الوظیفی، لکن مع استمرار ترتیب العقوبة لآثارها لربما تهدر هذه الفرصة، بما ینعکس سلباً على فکرة الإصلاح والتأهیل، إذ قد یشعر الموظف بالذنب ووطأة العقوبة، غیر ان الإحساس بهذا الشعور مادیاً من الإدارة یحتاج إلى الوقت، ومن ثم قد یعدل الموظف عن ذلک الإحساس کردة فعل عکسیة على عدم ادراک الإدارة لهذا الامر منذ بدایاته، أضف إلى ذلک ان تحقق الإدارة من استقامة سلوک الموظف قد یستغرق وقتاً. 5- إن فرض العقوبة الانضباطیة یخضع فی اصله إلى مبادئ فرض العقاب الجزائی، ولعل من أهمها مفهوم التفرید فی العقوبة، غیر أن هذا الامر فی النظام الانضباطی نراه ینحصر فقط فی مسألة التناسب بین الفعل وبین العقوبة من خلال ملاحظة المسائل والظروف الموضوعیة والشخصیة. ومن ثم فإن التفرید فی فرض العقوبة الانضباطیة لا یصل الى وقف العقوبة، وهذا ما یؤثر فی مفهوم الإصلاح بحسبانه الغرض الأساس والوحید للعقوبة([30])، وهذا ما یستدعى تبنی عقوبات بدیلة عوضاً عن عدم الأخذ بمفهوم وقف التنفیذ فی النظام الانضباطی، وذلک من شأنه أن یعطی لمفهوم الإصلاح دوراً کبیراً بما یؤدی إلى حسن سیر المرافق العامة وتحقیق المصلحة العامة. المطلب الثانی صور مقترحة للعقوبات البدیلة إن مسألة البحث عن صور للعقوبات البدیلة فی النظام الانضباطی للوظیفة العامة، یجب أن ینبع من طبیعة وخصوصیة هذه الوظیفة وصفة الموظف العام، ومن هنا فقد اجتهدنا فی وضع صور مقترحة لها على النحو الاتی:- أولا- العمل لساعات إضافیة. تجیز قوانین الخدمة المدنیة تکلیف الموظف العام بالعمل لساعات إضافیة عن ساعات العمل المقررة للیوم، على أن یحصل الموظف فی هذه الحالة على مقابل مالی ومعنوی أیضا([31]). واذا کان الأصل یجری على هذا المنوال، فانه یمکن سن تشریع بتکلیف الموظف بالعمل لساعات إضافیة بدون مقابل أو مقابل أقل عن المقرر کعقوبة بدیلة عن العقوبة الانضباطیة الاصیلة، ولمدة محددة تبعا لجسامة الذنب المرتکب. ویحمل هذا النوع من العقوبة المفهوم نفسه فی العمل للمنفعة العامة أو خدمة المجتمع فی السیاسة الجزائیة -على ما سبق بیانه، فهی تنطوی على تهذیب سلوک الموظف العام، مما یجعل لها ممیزات عقابیة إیجابیة أکثر من فرض العقوبات الانضباطیة الاصیلة. ومن أجل أن ترتب هذه الصورة المقترحة من العقوبة آثارها فی الردع والاصلاح والتأهیل ینبغی أن یستغرق العمل جهداً ووقتاً، بما یحقق فی نفس الموظف شعوراً بالندم والرغبة فی التکفیر عما قارفه من اخلال بواجباته الوظیفیة، والعزم على اصلاح سلوکه الوظیفی مستقبلا، وهذا ما یمکن أن نلمسه فی حسن أدائه لأعمال وظیفته، وتوظیف خبرته فی إنجازها([32])، سواء فی أوقات العمل الرسمیة واوقات العمل الإضافیة على حدٍ سواء([33]). ولا یخفى إن فرض هذه العقوبة هنا یقتضی أن یندرج فی نصوص القانون الانضباطی، تأسیساً على مبدأ الشرعیة الجزائیة، وأن توصی بها وتفرضها الجهة المختصة بذلک بعد تحقق دواعی فرضها. أما بالنسبة لقبول الموظف العام بهذه الصورة قیاسا على قبول المحکوم علیه فی عقوبة العمل للمنفعة العامة، فتجدر الإشارة إن الأصل فی تکلیف الموظف بساعات عمل إضافیة مرتبط فی الأساس بمبدأ سیر المرافق العامة([34]) بانتظام واستمرار تقدیم المرفق للخدمة العامة، وعلى هذا لا یجوز للموظف أن یرفض هذا التکلیف، ولکن ما نجده إن الموظف ینال مقابلاً عن ساعات العمل الإضافیة فی الأحوال العادیة، ولکن طالما یراد جعلها صورة للعقوبات البدیلة، فان الصفة الرضائیة فی فرضها تستلزم قبول الموظف المعاقب بها، کما یجری علیه الحال عند فرض العقوبات البدیلة بدلا من تلک السالبة للحریة، اتساقاً مع ما تفرضه حقوق الانسان من منع العمل سخرة بلا مقابل، فضلاً عن إن عدم قبول الموظف بها معناه أن هذه العقوبة لن تؤدی أغراضها، ومن ثم لا بد من العودة إلى فرض العقوبات الاصیلة جزاءً وفاقاً.
ثانیا- التکلیف بأعمال إضافیة. یؤدی الموظف أعمال وظیفته على النحو المقرر لها ضمن أوقات العمل الرسمیة، على إن لکل نوع من الوظائف مهام وواجبات تکون مختلفة عن الأنواع الأخرى، والموظف العام علیه أن یلتزم بما یتم تکلیفه به من أعمال وواجبات طالما کانت فی حدود وظیفته. ولکن نجد أن الإدارة وفی أحوال ما قد تجد نفسها أمام تکلیف الموظف بأعمال خارج حدود وظیفته الاصیلة، وذلک بان یمارس اعمال وظیفة أخرى داخل الإدارة التی یعمل فیها او خارجها، لما فی ذلک تحقیقا للمصلحة العامة، وعلى الموظف أن یقبل ویقوم بما اسند الیه من أعمال وان کانت لیس لها صلة بمهام وظیفته بهدف المشارکة فی انجاز اعمال الإدارة المختلفة([35]). ونجد مثالاً ان التشریع العراقی یلزم الموظف العام بتخصیص جمیع أوقات الدوام الرسمی للعمل([36])، ومن ثم لیس هناک من مانع بتکلیف الموظف للقیام بأعمال تتفق مع اعمال وظیفته او تتلاءم مع مؤهلاته، وان لم تکن فی الأصل من مهام وظیفته کما تلجأ مجموعة من التشریعات، ومن اجل موازنة الامر السابق إلى وضع شروط، بتحققها یمکن للإدارة أن تکلف الموظف بأعمال وظیفة أخرى، منها ما یتعلق بالحاجة الى التکلیف بالأعمال الإضافیة، أو ما یتعلق بالمدة الخاصة بالتکلیف، أو بطبیعة الوظیفة واعمالها التی یراد تکلیف الموظف للقیام بها، وکذلک تحدید النطاق المکانی لهذا التکلیف، والالیة والاجراءات المتبعة فی ذلک([37]). ومن الممکن أن نجد صورة هذا العقاب فی تکلیف الموظف بعمل موظفین مجازین، أو تکلیفه بأعمال إضافیة فی إحدى الهیئات الإداریة الاخرى التی تکون بحاجة الى خدماته، أو من الممکن أن یکون التکلیف بأعمال لا تستوجبها طبیعة وظیفته الأصل، کأن یطلب منه إقامة دورات تدریبیة للموظفین. ولعل أهم ما قد یترتب على ذلک من أثر إنه یعزز ثقة الموظف بنفسه وبفاعلیة دوره فی أداء الوظیفة العامة، بما یسهم فی التأهیل والإصلاح، ومن ثم یجعله أکثر اقبالاً واندفاعاً فی تحسین سلوکه الوظیفی، فضلاً عما یشعره من زهو من خلال دوره فی تسییر المرافق العامة. وقد یقال إن هذه الصورة لا تحقق مفهوم التناسب فی فرض العقاب، أو أن ایلامها المعنوی یکون خارج نطاق المعقول، ویمکن الرد على ذلک إن على الموظف أن یکرس مجموع أوقات العمل الرسمیة لأداء وظیفته، کما أن هناک أوقات یوضع فیها الموظف تحت مفهوم الاعمال الإضافیة فی ظروف استثنائیة، کما لو ان زمیله فی العمل قد اعتراه عارض منعه من أداء أعمال وظیفته فیکلف هو بالأداء. زد على ذلک إن هذه الصورة من العقاب وان کانت تمثل ضغطاً على الموظف، لکنه یقبل ذلک بسبب الأثر المالی لها، ولطالما إن أداء الأعمال الإضافیة یحفظ الموظف العام من الآثار المالیة للعقوبات الانضباطیة، ومن ثم فهو سوف یرضى بهذا من العقاب. الخاتمـة وإذ قاربنا بلوغ نهایة البحث فان مسألة تبنی فکرة العقوبات البدیلة فی النظام الانضباطی لیست ترفاً او أمراً دخیلاً فی هذا النظام، بل ان الغایة تدعو الى التفکیر ملیا فی هذا الامر، ومن خلال هذا البحث البسیط فإننا حاولنا مقاربة النظام الانضباطی والنظام الجزائی فیما یتعلق بفرض عقوبات بدیلة عن العقوبات الاصیلة، ومن خلال ذلک توصلنا الى بعض النتائج وخلصنا الى بعض التوصیات على النحو الاتی: أولا- النتائج: عبر دراستنا لفکرة العقوبات البدیلة وإمکانیة تبنیها تحققت لدینا النتائج الاتیة: 1- إن السیاسة الجزائیة المعاصرة تهدف إلى تبنی آلیات جدیدة فی العقاب لإصلاح الجانی وتأهیله وعودة اندماجه مع مجتمعه فرداً صالحاً یسهم فی تطوره. 2- إن فرض عقوبات بدیلة یعمل على ترشید الانفاق على المؤسسات الإصلاحیة، لاسیما أن هناک عقوبات لم تعد لها ضرورة، بل إن الاستمرار فی فرضها یعود بآثار سلبیة على المحکوم علیه والمجتمع. 3- إن هناک من الدول من قطع شوطا کبیرا فی هذا المجال، فقامت بإقرار تشریعات بفرض عقوبات بدیلة عن العقوبات الاصیلة. 4- إن من أبلغ صور العقوبات البدیلة هی الجزاء المالی والعمل للنفع العام. 5- إن فرض العقوبات البدیلة یخضع إلى العناصر ذاتها التی یقوم علیها فرض العقوبات الاصیلة من حیث الشرعیة والقضائیة والشخصیة. إلا أن ما تنفرد به العقوبات البدیلة صفة الرضائیة فی أن یقبل المحکوم علیه بفرضها. 6- إن النظام الانضباطی هو صورة من صورة النظام الجزائی، ولیس هناک ضیر فی تبنی مفهوم العقوبات البدیلة فیه، بما یسهم فی اصلاح الموظف المخالف، وبما یعود بالخیر على الوظیفة العامة. 7- إن المشرع العراقی فی قانون انضباط موظفی الدولة والقطاع العام رقم (14) لسنة 1991 تبنى سیاسة إصلاحیة، وهی إعادة النظر بالعقوبة الانضباطیة وآثارها عبر ما یعرف بمفهوم (محو العقوبة) فیما لو ثبت له إن السلوک الوظیفی للموظف المعاقب قد أصبح قویما من غیر أود. بما یرسخ فی الذهن إن تبنی المشرع للعقوبات البدیلة یقود التی تحقیق الآثار نفسها من تبنیه لمفهوم المحو، لأن الموظف فی کل من همها سیعکف على إعادة النظر فی سلوکه الوظیفی، بل إن للعقوبات البدیلة میزة فی أنها لا تترک آثاراً کما فی محو العقوبة، لأن ما تم تنفیذه من العقوبة یبقى، کما أنها تعالج موضوع التطبیق غیر السلیم لمحو العقوبة فیما لو تم على وفق رغبات شخصیة للإدارة، سواء من حیث المحو أو رفضه، على وفق ما یتیح لها الاختصاص التقدیری الذی تتمتع به. ثانیا- التوصیات: 1- نوصی المشرع العراقی على نحو عام تبنی مفهوم العقوبات البدیلة بدلا من بعض من العقوبات السالبة للحریة، من خلال تعدیل فی بعض التشریعات الجزائیة، ومثالها قانون المرور، إذ إن فیه عقوبات سالبة للحریة لأفعال قد لا تنم عن خطورة إجرامیة، ومن أجل تلافی محاذیر تنفیذ تلک العقوبات وما تنطوی علیه من آثار سلبیة. 2- نوصی المشرع العراقی بتطبیق فکرة العقوبات البدیلة فی النظام الانضباطی، فی غیر العقوبات المنهیة للرابطة الوظیفیة - لان عقوبة الفصل والعزل یعبر فرضهما عن سلوک شائن من الموظف وعلى وجه الخصوص عقوبة العزل، بما یکفل مفهوم الإصلاح، وما یرفع الابهام عن نظام المحو واجتهادات الإدارة بخصوص رفع العقوبة من ملف الموظف العام أو الاکتفاء بانقضاء الاثار اللاحقة للعقوبة فحسب. وإذ نوصی المشرع فی فرض العقوبات البدیلة، منطلقین فی ذلک من ذاتیة مبدأ الشرعیة الجزائیة فی هذا النظام، والتی تقوم شرعیة العقوبة الانضباطیة إعادة صیاغة العبارة لطفاً؛ لأن من المعلوم أنه لا یمکن للمشرع أن یحیط بجمیع الافعال التی تعد مخالفة انضباطیة، وعلى هذا نقترح النص الاتی: أولا: للوزیر أو رئیس الدائرة أن یفرض بدلا عن العقوبات المقررة فی المادة (8) من هذا القانون احدى العقوبات الاتیة: 1- العمل لساعات إضافیة خدمة للمرفق العام. 2- القیام بأعمال إضافیة فی خدمة المرفق العام الذی یعمل فیه او أی مرفق عام آخر الى جانب وظیفته الأساس. ثانیا: للجنة التحقیقیة ان توصى بفرض احدى العقوبات الواردة فی الفقرة أعلاه بدلا عن العقوبات المقررة فی المادة (8) اذا ما رأت فی ذلک ما یحقق اصلاح السلوک الوظیفی للموظف وبما یحقق مصلحة المرفق العام. ثالثا: تستثنى من احکام ذلک المخالفات والافعال التی یرتکبها الموظف وتستوجب فرض عقوبتی الفصل والعزل. رابعا: اذا کان الموظف قد عوقب بعقوبة بدیلة ثم عاد بانتهائها الى ارتکاب مخالفة أخرى فلا یجوز فرض عقوبة بدیلة مرة أخرى. The Author declare That there is no conflict of interest References (Arabic Translated to English) First- The legal books: 1- Aḥmad Fatḥi Surur, fundamentals of the criminal policy, An-nada Al-Arabiya Publishing house – Cairo, 1973. 2- Dr. Suleiman Abdel Moneim Suleiman, fundamentals of the Criminal Penalty Science, Aj-Jamiaa Aj-Jadidah Publishing house, Alexandria, 2001. 3- Dr. Suleiman Muhammad Al-Tamawi, Administrative Judiciary - Third Book - Disciplinary Judiciary, Al- Fiker Al- Araby Publishing House, Cairo, 1995. 4- Dr. Tariq Abdul Wahab Saleem, Introduction to the Modern science of punishment, An-nada Al-Arabiya Publishing house – Cairo. 5- Dr. Abdullah Abdul-Aziz Al-Youssef, The Societal measures as alternatives punishment to restricting freedom, Naif Academy for Security Sciences, Riyadh, 2003. 6- Dr. Abdullah Abdul-Ghani Ghanem, The Prisoners’ Families Problems and the Determinants of this Treatment Programs, Naif Arab University for Security Sciences, Riyadh, 2009. 7- Dr. Ali Muhammad Badir and others, Principles and Provisions of Administrative Law, Ministry of Higher Education and Scientific Research, Baghdad, 1993. 8- Dr. Fakhry Abdul-Razzaq Al-Hadithi, Explain of Criminal Law - General Section, Al-Zaman Press, Baghdad, 1992. 9- Dr. Mahmoud Taha Jalal, fundamentals of criminalization and punishment in Contemporary Politics, First Edition, An-nada Al-Arabiya Publishing house – Cairo, 2005. Second- thesis.: 1- Abdul-Amir Hassan Janeih, Conditional release in Iraq (A comparative study), PhD thesis, College of Law - University of Baghdad, 1979. 2- Mubarak Anad Faisal Al-Anazi, The Alternative Punishments to prison and their Applications in Kuwaiti Law, Master Thesis, Naif Arab University for Security Sciences - Criminal Justice School, 2017. Third- Research and Articles: 1- Dr. Belarabi Abdel Karim, Abdelali Bisher, Reduction of Punishment in Contemporary Criminal Policy, Jil Journal of Deep Legal Research, Jil Center for Scientific Research - Algeria, 21 issue, January 2018. 2- Dr. Saher Ibrahim Al-Waleed, Electronic Control of the Accused as a means to Reducin Disadvantages of Reserve Imprisonment, Journal of the Islamic University, Gaza, issue on Jan 1, 2013. 3- Dr. Safaa Utani, Community Service in Contemporary Punitive Policy (Comparative Study), Damascus University Journal of Economic and Legal Sciences, 2009. 4- Dr. Safaa Utani, The probation (the electronic bracelet in the French Punitive policy), Journal of Economic and Legal Sciences, 2009. 5- Dr. Safaa Utani, Rationalization Punishment in Contemporary Penal Policy, Sharia and Law Journal - Emirates University, 2014. 6- Fahd Yousef Al-Kasasbeh, Proposed Legislative Solutions to Adopt the Alternative Sanctions in the Jordanian Penal System, Dirasat Journal (Sharia and Law Sciences), 2013. 7- Dr. Muhammad Said Namur, suspension of sentence, Mutah University Journal for Research and Studies, 1988. | ||
References | ||
أولا: الکتب القانونیة
ثانیا: الاطاریح والرسائل الجامعیة
ثالثا: البحوث والمقالات
| ||
Statistics Article View: 400 PDF Download: 362 |