الغزل وأبعاده الصوفیة مدخلاً لفهم ترجمان الأشواق لمحیی الدین بن عربی ( ت 638 هــ) . | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مجلة الخلیل | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
Article 4, Volume 6, Issue 9, January 2021, Pages 1-32 PDF (639.74 K) | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
Authors | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الدکتور زاهر الغسینی* 1; أ. إیمان السنانیة* 2 | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1جامعة السلطان قابوس | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
2وزارة التربیة والتعلیم بسلطنة عُمان | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
Abstract | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الملخص: یُعد ترجمان الأشواق لمحمد بن علی بن محمد بن عربی الأندلسی، المعروف بـ (محیی الدین بن عربی/ ت638هـ)، من أهم الدواوین الشعریة الصوفیة القدیمة، وإثراءً شعریًا له قیمته الأدبیة بین المؤلفات الأندلسیة، إلا أنه لا یزال بِکْرًا بمعانیه؛ لم تستظهر بواطنه، ولم تستخرج کنوزه الدلالیة والرؤیاویة بعد. وترصد الدراسة الحالیة الغزل وأبعاده الصوفیة مدخلًا لفهم ترجمان الأشواق لابن عربی، إذ یمثل المتن الشعری لهذا الدیوان درجة "الانزیاح" القصوى للغة، وتوصلت الدراسة إلى أن التقاطعات بین لغة الشاعر ولغة المتصوف تقع فی البعد الخیالی نفسه، لکن أسلوبیة کل واحد منهما مختلفة عن الآخر، فحضور جمالیات الشاعر کانت واضحة فی متنه الشعری الغزلی، وحضور مَقصدیات المتصوف کانت نافرة أشد النفور عن هذا المتن، قریبة أشد ما یکون القرب من عالم التصوف المبهم، الذی لا یقل عالم الشعر عنه فی الإبهام والإیهام. الکلمات المفتاحیة: ترجمان الأشواق، ابن عربی، الغزل، التصوف، الانزیاح. Abstract: Tarjumān al-ashwāq by Mohiuddin bin al-'Arabi is one of the most important books of ancient Sufi poetry, and a poetic addition to the Andalusian literature. However, it is like a virgin land whose treasures have not yet been discovered. The current study examines Flirtation and its Sufi Dimensions as an Introduction to Understanding Tarjumān al-ashwāq of Mohiuddin bin al-’Arabi. The poetic text of this book represents the maximum degree of "language deviation”. The study found that the intersections between the language of the poet and the language of the Sufi are within the same imaginary dimension, but they have a different style. The aesthetics of the poet were evident in his poetic text, but there is no presence of the Sufi in the poetic text as it is very close to the vague world of Sufism which is as vague as the world of poetry. key words: Tarjumān al-ashwāq, ibn ‘Arabi, Flirtation, Sufism, deviation.* | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
Full Text | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المقدمة: یُمثل محی الدین بن عربی قیمة أدبیة فی الدراسات الأندلسیة؛ نظیر ما قدَّمه من إنتاج أدبی صوفی، وبصمات فکریة تُعد نموذجًا لإبداع العبقریة الأندلسیة التی ترکت أثرها فی الآداب العالمیة. ولم تأتِ دراسة للغزل وأبعاده الصوفیة فی ترجمان الأشواق لابن عربی محظ صدفة، بل محاولة للاقتراب من النتاج الشعری الصوفی الذی حاول من طریقه تأسیس خطاب لغوی ممیَّز لأیدیولوجیته الفکریة، وتجربته الصوفیة، بعد نشأته فی مجتمعٍ أندلسیٍّ تداخلت مشاربه الدینیة، وامتزجت رؤاه الفکریة؛ ممَّا أثَّر فی فکر ابن عربی، فجاء فی ترجمانه بأسلوبٍ شعری مُحمَّلٍ بالرمزیة الصوفیة، وإیحاءاتها الدلالیة التی میَّزت تجربته الأدبیة. وبُغیة الدخول فی فهم ترجمان الأشواق من طریق الغزل وأبعاده الصوفیة، نقول إن النقد العربی القدیم یعود بنا مع المفهوم الحدیث "لغة الشعر" إلى ما کان متداولا بین النقاد بخصوص قضیة اللفظ مقابل قضیة المعنى، إذ کانت قضیة اللفظ الموازی التاریخی لمفهوم لغة الشاعر حدیثًا. وإن کان المُسلَّم به إجمال النقد العربی القدیم لحدِّ الشعر فی: "أربعة أشیاء، هی: اللفظ، الوزن، المعنى، والقافیة"([1])، فیمکن أن نستنتج أن اللفظ ضلعٌ لمربعٍ یشکل مرکب الشعر عند العرب:
یعکس هذا المربع الفهم الشمولی للشعر حسب قواعد "عامة" غیر دقیقة لا تصلح إلا للشعر العربی؛ فنحن نحس اجتهاد العرب فی محاولة تحدیدهم بنیة الشعر فی اللفظ والوزن والمعنى والقافیة، لکن لا یُمکن العثور على جهاز إجرائی یحدد مفهوم اللفظ من جهة؛ والوزن من جهة والمعنى من جهة أخرى. وإذ یکاد النقد الحدیث یخلع على اللغة مفهوم الشعر: فإنه من طریق الأسلوبیة یتحقق المربع القدیم فی صیغة متقدمة مثلثة ومختزلة؛ هی:
ویمکن القول هنا بتدعیم هذا المثلث بمفهوم الإفضاء نرمی إلى تعالق المستویات الثلاثة، وضمان ترابطها إفضاءً فیما بینها؛ بُغیة الحصول على بنیة شعر "شمولیة"؛ تمثل الشعر الإنسانی بعکس بنیة الشعر العربی القدیم التی لا تقبل النقاش فی خصوصیتها. لقد کان لزامًا الوقوف على أسباب هذه الإشکالات جمیعها، ونتدرج بها؛ بدءًا من إشکال لغة الشعر واللغة العادیة إلى قضیة اللفظ والمعنى فی النقد العربی القدیم، ثم الموازی الحدیث لها؛ أی لغة الشعر وما أفضت به فی النهایة بنیة اللغة الشعریة؛ لبناء جداول إجرائیة تحلیلیة عدة على غرار الجدول الذی اقترحه جون کوهین بحسب الإشکالات التی ذُکرت آنفًا، ثم نضیف للسمات الشعریة بنیة لم یلتفت إلیها جون کوهین؛ وهی البنیة الترکیبیة.
وفی وصف الجدول فی أعلاه؛ یُلاحظ تناسب السمات الشعریة بالإیجاب بین لغة الشعر فی المفهوم الحدیث وقضیة اللفظ والمعنى فی المفهوم القدیم، وما نرمی إلى إیصاله منذ حین؛ هو إبراز اللغة الشعریة وتمییزها عند ابن عربی على مستوى ما طرح من قضایا وإشکالات أُجْملت فی جدول السمات الشعریة المعدل، ولکن على مستوى النص الموازی والمزمع فی اللغة الاصطلاحیة الصوفیة التی تتحقق فیها درجة الصفر من الکتابة من طریق غیاب المستوى الصوتی والمستوى الدلالی، وإن تحقق المستوى الترکیبی دون انحرافیة؛ إلا أنه لم یفد فی شیء فنحن یمکن أن نرکب جملة فعلیة سلیمة من: فعل + فاعل + مفعول به فنقول: أکل زید التفاحة
ویمکن أن نرکب جملة فعلیة فاسدة دلالیا، ولکنها صحیحة ترکیبیا من: فعل + فاعل + مفعول به فنقول: أکل زید السیارة
ونفهم من هاتین الجملتین أن الترکیب صحیح فی کلتیهما: فسلیم من حیث الدلالة فی الجملة (1)، وفاسد من حیث الدلالة فی الجملة (2). وعلیه تکون المقارنة بین الشعر والشرح على نحو الجدول الآتی: السمات الشعریة
ویفترض المثلث المُقترح إنتاج الدلالة (الرؤیا) فی تعالق ما بین البنیة الصوتیة والترکیبیة والبنیة الدلالیة؛ أی: فی نطاق لغة الشعر ولیس خارجها (لغة الشرح)، إذ إن هذه الأخیرة وُسِّمت على مستوى الدلالة بعلامة السلب؛ بغض النظر عن تحقق علامة الإیجاب أو عدمها على المستوى الصوتی؛ لهذا یمکن القول إننا -مع ابن عربی فی ترجمانه- یقف المتلقی حائرًا بین أسلوبه الشعری الذی جرَّده من (الرؤیا)؛ وبین أسلوبه الاصطلاحی التصوفی الذی خلع علیه جبرا (الرؤیا). وعبر تشخیص (ج. کوهین) للأسلوب بالمقارنة بین جنسین مختلفین (النثر # الشعر)؛ لا نستنتج فقط أن الاختلافات المسجلة بینهما على مستوى السمات الشعریة الثلاث: (الترکیب، الصوت، الدلالة)، بل یمکن أن نرجع إلى نثریة الفکرة أو نثریة المعنى الشعری، على حد قول أبی الحسن بن طباطبا محمد بن أحمد بن محمد القرشی (تـ 322هـ): "فإذا أراد الشاعر بناء قصیدة مخض المعنى یرید بناء الشعر علیه فی فکره نثرا"([2]). ونشیر هنا إلى أن المقارنة بین الشعر والنثر عموما هی مقارنة بین جنسین أدبیین، فی حین أن الحدیث عن نثریة المعنى الشعری هی تأصیل لعملیة الإبداع داخل جنس أدبی واحد هو الشعر، وبین هاتین الإشارتین نُبلور تصورًا آخر بین لغة الشعر ولغة الشرح عند ابن عربی:
جنس الشعر # جنس النثر + ترکیب انحرافی + ترکیب (غیر انحرافی) + صوت – صوت + دلالة + دلالة
جنس الشعر
ویمکن التساؤل فی إمکان افتراض جدلٍ أن الشروحات الاصطلاحیة الصوفیة لابن عربی هی عودة متأخرة إلى مرحلة أولى تتجسد فی التفکیر فی المعنى نثرًا. وتتلخص الإجابة فی بضع نقاط أساسٍ: أ) إن مفهوم الشرح لأی متن شعری یحیل بالضرورة على التفسیر المعجمی للغة، ثم صیاغة هذه اللغة صیاغة نثریة تقوم على کسر انحرافیة النحو فی المستوى الترکیبی، و"تسلیب"[3] المستوى الصوتی للغة الشعر؛ بمعنى آخر: النزول على شکل سقطة حرة من الوظیفة الجمالیة للغة الشعر إلى الوظیفة التواصلیة الإفهامیة للغة العادیة على النحو الآتی:
الوظیفة الجمالیة الوظیفة التواصلیة
ونمثل لهذه الظاهرة بقطعة من المعلقات السبع: یقول فیها امرئ القیس من معلقته الشهیرة [الطویل][4]: ففاضتْ دموعُ العینِ منی صبابةً على النحرِ حتى بلَّ دمعیَ مَحمَلِی ویشرح الإمام الزوزنی هذا البیت قائلا: "الصبابة: رقة الشوق، وصبَّ الرجل یصب صبابة فهو صب، والأصل صبب، فسکنت العین وأدغمت فی اللام، المحمل حمالة السیف، والجمع المعامل، والحمائل جمع الحمالة[5]. وإذا کان الشاعر یبنی المعنى فی فکره نثرًا ثم یتصرف فیه؛ ویجعله شعرًا فیما بعد؛ فهذه العملیة تُعد عملیة جمالیة إبداعیة بالأساس، تتحقق فیها اللغة على أنها منتجة للمعانی دون أن نجازف بالقول: "إنها معانٍ" فاللغة متناهیة والمعانی لا متناهیة والقول: إن اللغة هی "معان" إنما هو مثل القول بتناهی المعانی؛ والقول إن اللغة تنتج المعانی یتضمن القول بلا نهائیة المعانی؛ لذلک فـ"إن میزة (الثورة الألسنیة) التی شهدها القرن العشرین، من سوسیر وفینغشتین إلى النظریة الأدبیة المعاصرة، هی إدراک أن المعنى لیس مجرد شیء "تعبر" عنه اللغة أو تعکسه؛ وإنما هو فعلیا شیء تنتجه اللغة"[6]. ولمَّا کان الهدف من شرح ابن عربی لترجمان الأشواق هو دَرْءُ الشبهة عن نفسه على حد قوله: "وکان سبب شرحی لهذه الأبیات أن الولد بدرا الحبشی والولد إسماعیل ابن سودکین سألانی فی ذلک؛ وأنهما سمعا بعض الفقهاء بمدینة حلب ینکر أن هذا من الأسرار الإلهیة، وأن الشیخ یتستر لکونه منسوبا إلى الصلاح والدین، فشرعت فی شرح ذلک وقرأ علی بعضه القاضی ابن العدیم بحضرة جماعة من الفقهاء،.."([7])؛ فإنه حرص بکل جهده على المحافظة على صورته الموقرة، ناهیک أن دواعی الشرح لم تکن للشرح ذاته، بل لإخراس الأفواه التی أخذت تلوک سیرته بالسوء، ولعل هذا ما جعله "مضطرا"؛ لإثبات وجود معارف ربانیة وأنوار إلهیة، وأسرار روحانیة، وعلوم عقلیة، وتنبیهات شرعیة داخل دیوانه، ولو کلفه ذلک وضع اصطلاحات وتعریفات صوفیة فی شروحاته لا تتلاءم وطبیعة متنه الشعری، وافترض فی هذه الشروحات أن تؤدی وظیفة اتصالیة إفهامیة، وهذا ما لم یتحقق له بعدما أشبع شروحاته برموز وعلامات واصطلاحات غیر متواضع علیها.
الغزل مَدخلًا لفهم ترجمان الأشواق: یُعد غرض الغزل فی الشعر العربی أرق الأغراض الشعریة عند العرب؛ وهو الأکثر ارتباطا بالذات، کما أنه المفضل على جمیع الأغراض الشعریة الأخرى، یقول الحسن بن رشیق القیروانی (ت 463هـ) فی تعریفه: "وأما الغزل فهو إلف النساء، والتخلق بما یوافقهن"([8])، ویضیف قدامة بن جعفر "ویقال فی الإنسان إنه غزل إذا کان متشکلا بالصورة التی تلیق بالنساء، وتجانس موافقاتهن. لحاجته بالوجه الذی یجذبهن إلى أن یملن إلیه والذی یمیلهن إلیه هو الشمائل الحلوة. والمعاطف الظریفة والحرکات اللطیفة والکلام المستعذب والمزاج المستغرب، ویقال لمن یتعاطى هذا المذهب من الرجال والنساء منشاج، وإنما هو متفاعل من الشجی؛ أی متشبه بمن قد شبعاه الحب"([9]). وهو "الذی إذا اعتقده الإنسان فی الصبوة إلى النساء نسب بهن من أجله فکأن النسیب ذکر الغزل، والغزل المعنى نفسه"([10]). ویضیف "ابن سیده: الغزل اللهو مع النساء"([11]). وهو بمعنى المحادثة والمراودة ([12]). ویضیف قدامة: "والغزل إنما هو التصابی والاستهتار بموادات النساء"([13])، وثمة فیمکن "رد القصائد العربیة التی تراکیبها البسیطة تتفرع عنها تفریع تصریف وتفصیل. ومن الأمثلة التی یمکن أن نذکرها فی هذا السیاق أن القصائد الغزلیة العربیة تصرف فی جملة واحدة هی: (أ + حب + ک)، والشاعر یقف على "الأنا" العاشق فیذکر أطواره فی حالته تلک، أو یقف على "العشق" فیفصله إلى مکوناته، أو یقف على "کـ" موضوع العشق فیصرفها إلى الصفات والأفعال والمواقف أو یقف على العناصر الثلاثة جمیعا"([14]).
أ) رؤیا الضمائر (الحدیث عن الذات):
وضع نجیب البهبیتی ثلاثة تیارات یتناول فیها الشاعر حیثیات الغزل؛ وهی أقرب ما یکون إلى التصنیف "الهیکلی" الذی أورده حسین الواد فی لفظة: أحبک. وما یتوافق مع ألف المضارعة فی لفظة "أحبک" من تصور البهبیتی قوله: فی سیاق "التیار الثالث- وفیه یجری الشعر على نوع من تناول هوى النفس للحبیبة تناولا قصد به إلى التعبیر عن العاطفة، وعمَّا یکابده من لقاء صاحبته، مما هو واقع بنفسه، مثیر بقلبه من ألم ممض، أو جوى یتملکه، والشاعر فی هذا لا یتناول العاطفة المجردة تناولا مباشرا؛ ولکنه یرکب إلى تصویرها الوقائع، والشواهد العینیة المستخلصة من تجاربه فی الحیاة"([15]). هذه هی ملامح الأنا المتغزلة من لفظة "أحبک"، وتکررت فی مجمل دیوان ابن عربی بطریقة واضحة تجعلنا نأخذ بقیاس البهبیتی على أنه لا یتناول العاطفة المجردة تناولا مباشرًا؛ لکنه یجنح إلى تصویر الوقائعَ والشواهدَ العینیة المستخلصة من تجارب الحیاة، والشواهد عند ابن عربی کثیرة، منها قوله [البسیط] ([16]):
تتحرک الأنا المتغزلة فی هذه المقطوعة من طریق الضمائر الآتیة:
وضمیر المخاطب فی "سألت" و"قلت" یحقق الأنا المتغزلة تحقیقًا مباشرًا؛ حتى ولو أن المخاطَبَ تجریدیٌ، وهی: الریح، وهذا ما یبعث ملامح التجربة الحقیقیة فی هذه المقطوعة الشعریة، غیر أن ضمیر الجمع "لنا" لا یعکس "تفخم" الأنا المتغزلة کما توحی بذلک؛ فالمقام مقام تذلل وخضوع فی سیاق تذکر المحبوب. وکان مفترضا به أن یقول: "سألتهم عن مقیل الرکب قیل: "لی"؛ غیر أنه اضطر إلى استعمال ضمیر الجمع "لنا" للضرورة الوزنیة التی دونها یختل الوزن: فالمقطوعة من بحر البسیط: مستفعلن فعلن مستفعلن فَعِلُن وتغییر الضمیر "لنا" إلى الضمیر "لی" فیه کسر للوزن؛ لهذا یمکن أن نقول: إن الضمیر "لنا" هو ضمیر "فنی" یعود إلى بعض تقنیات النظم؛ ولا علاقة له بالرمزیات التی یفترضها ابن عربی فی شرحه، إن من قریب أو بعید. والأنا المتغزلة فی الضمیر "هو" فی "قلبه"؛ لا تحیل على أن المخاطب نکرة مجهول کما هو فی ظاهر القول، وإنما تحیل على سیاق الکلام مع المخاطب، فلما کان المخاطب تجریدیًا، وهی الریح، انتقل المخاطب فی لعبة الضمائر إلى مستوى أعلى؛ إذ تنتقل التجربة فی ضمیر المتکلم إلى مستوى أعلى حیث (الذاتیة) إلى الأنا المتغزلة حیث (الإنسانیة)؛ لهذا کانت الرسالة المحملة مع الریح موجهة إلى عموم القوم فی قوله: "فی قلبه من فراق القوم أشجان". یقول ابن عربی فی قصیدة أخرى [الکامل] ([17]):
من الضروری أولا التمییز بین الضمائر الرؤیاویة فی هذه المقطوعة؛ وبین الضمائر غیر الرؤیاویة الخاضعة للضرورات الوزنیة، ونقول: إنها توزعت على الشکل الآتی:
من الجدول السابق؛ یبدو جلیا أن الأنا المتغزلة حاضرة بقوة، وإن تعثرت هذه "الأنا" المتغزلة فی بعض الضمائر الخاضعة للضرورة الوزنیة؛ فإن المقطوعة الشعریة لم تتأثر مع حذف هذه الأخیرة، إذ یُمکن قراءة المقطوعة على النحو الآتی:
"یا أیها البیت العتیق تعال أشکو إلیک مفاوزا قد جبتها" وهنا حذفنا عجز البیت الأول الذی یقول فیه: "نور لکم بقلوبنا یتلالا"
کما یُمکن حذف صدر البیت الخامس، وقراءته من زوایا أخرى؛ فنقول: "إن النیاق وقد أضر بها الوجى تسری وترفل فی الثرى إرفالا شوقا وما ترجو بذاک وصالا"
أو قراءته على النحو الآتی: "إن النیاق وقد أَضر بها الوجى تسری وترفل فی الثرى إرفالا قطعت إلیک سباسبا ورمالا، شوقا وما ترجو بذاک وصالا"
ولعل ما ساعد فی هذه القراءة الثانیة هی البنیة الوزنیة لعجُزَیْ البیتین: (الخامس والسادس)؛ إذ یقول: شوقا/ وما/ ترجو/ بذاک/ وصالا وخدا/ وما/ تشکو/ لذاک/ کلالا
غطَّى ضمیر المتکلم/ الأنا المتغزلة، مساحة کبیرة من أبیات هذه القصیدة؛ ثم کان مدار الحدیث هو الشکوى فی رحلة شاعریة على ظهر النیاق التی لا تشتکی ألم الوجى. تبدأ القصیدة فی أبیاتها الأولى بالشکوى، وتنتهی بالشکوى، وتبنى (ضمیرُ المتکلم/الأنا المتغزلة) استراتیجیة ذکیة فی محاصرة الضمائر الأخرى داخل دائرة الشکوى هاته؛ لیتفرد بألم الفراق ویخلعه على نفسه دون منازع. فالضمیر المتصل فی: إلیک؛ وهو کاف المخاطَب، الذی یتجسد فی المخاطَب "التجریدی" البیت العتیق" لیس إلا استعارة للمحبوبة "نظام"، التی تقیم أصلا فی مکة المکرمة، ومردُّ هذا التفسیر هو قول ابن عربی: "وکان لهذا الشیخ، t، بنت عذراء، طفیلة هیفاء، تقید النظر، وتزین المَحاضر والمُحاضر، وتحیر المناظر، تسمى بالنظام وتلقب بعین الشمس والبهاء، من العابدات العالمات السابحات الزاهدات شیخة الحرمین، وتربیة البلد الأمین الأعظم بلا مین، ساحرة الطرف، عراقیة الظرف (...) مسکنها جیاد، وبیتها من العین السوداء، ومن الصدر الفؤاد (...) فراعینا فی صحبتها کریم ذاتها مع ما تضاف إلى ذلک من صحبة العمة والوالد، فقلدناها، من نظمنا فی هذا الکتاب أحسن القلائد بلسان النسیب الرائق، وعبارات الغزل اللائق (...) إذ هی السؤال والمأمول، والعذراء البتول، ولکن نظمنا فیها بعض خاطر الاشتیاق، من تلک الذخائر والأعلاق، فأعربت عن نفس تواقة، ونبهت على ما عندنا من العلاقة، اهتماما بالأمر القدیم، وإیثارا لمجلسها الکریم، فکل اسم أذکرها فی هذا الجزء فعنها أکنی، وکل دار أندبها فدارها أعنی"([18]). وإذْ تتناول الدراسة لاحقا کاف المخاطب من لفظة "أحبک" فی عنوان خاص بها؛ فإن الترکیز هنا فی الأنا المتغزلة فی القصیدة قید التحلیل؛ ونقول: إن علاقة ضمیر المتکلم بضمیر المخاطَب هی علاقة عدم تکافؤ؛ فالمتکلم یشتکی إلى المخاطَب ویسوق إلیه شکواه على مستویین اثنین من ضمیر الغائب:
ضمیر (هی) للغائب = التشکی من المفاوز فی (جبتها، أرسلت فیها)
التشکی من النیاق التی لا تشارکه معاناته، شوقه، إلى المحبوب وإن شارکته الرحلة، (تسری، ترفل، لا تشکو..) إن القصیدة من طریق هذه المقطوعة لم تتجاوز حدود الذاتیة؛ فکانت الأنا المتغزلة حاضرة تنضح فی کل بیت على حدة؛ لتعکس واقعًا معیشًا، وتجربة عاطفیة تنغلق على الذاتیة، وتنطوی على أهواء النفس.
وفی مقطوعة أخرى لابن عربی من البحر نفسه "البسیط" والروی عینه "النون" یقول [البسیط][19]:
تتحقق الأنا المتغزلة فی هذه المقطوعة على ثلاثة مستویات من الضمائر: أنا أنت هو فالحدیث بین الضمیر "أنا" والضمیر "أنت" هو على شکل حوار؛ لذلک کانت العلاقة وطیدة بین هذین الضمیرین وتجسدت فی الأفعال:
ضمیر "أنا" ضمیر "أنت" عجبت لا تعجبنی فقلت ترین أبصرت
وهذا ما یُحیل على المباشرة فی التجربة الذاتیة کما قلنا فی المقطوعة الأولى والثانیة، والانتقال من التجربة الذاتیة إلى التجربة الإنسانیة یستدعی شیئا من الذکاء فی التدرج من مستویات الضمائر؛ لهذا کانت العلاقة بین الضمیرین "أنا" و "هو" علاقة متباعدة فی الشطر الأول من البیت الأول فی قوله: إنی عجبت لصب من محاسنه ویُتعرف هنا على هویة المتکلم فی عبارة: "إنی عجبت" عبر افتراض أنه هو الشاعر، ولکن لا یُمکن معرفة هویة المخاطَب؛ فلفظة "صب" مطلقة لا تدل على شخصیة بعینها، وضمیر "هو" فی "محاسنه" دل على بعد المسافة بین "أنا" و "هو". غیر أن الحل قد یتأرجح بین الضمیرین "أنت" و "هو"؛ بحیث یتضاءل مستوى المتکلم فی الضمیر "أنا"؛ لذلک تکاد تندثر التجربة الذاتیة وتحل محلها تجربة إنسانیة مصرح بها مباشرة من طریق لفظة "إنسان". ویمکن حذف صدری البیتین وضمیر "أنا"، ثم یُقرأ عجزیْ البیتین على النحو الآتی [البسیط][20]:
وبهذا تتحقق "رؤیا الضمائر" من الذاتیة إلى الإنسانیة فیکون الضمیر "أنا" مجسدا لانغلاق التجربة على نفسها ویکون الضمیر "أنت" و "هو" قِمَّتا انفتاح هذه التجربة على أبعاد إنسانیة ووجدانیة کبرى.
ب) رؤیا الجواهر (الحدیث عن الحب) إن الحدیث عن الحب فی الشعر العربی عمومًا؛ وفی شعر ابن عربی خصوصًا؛ یستدعی الانطلاق من قاعدة تنظیریة وثیقة؛ ومع البهبیتی یتحقق هذا الشرط، إذ یمزج بین التیار الثالث، عنده، الذی یوافق ضمیر المتکلم/الأنا المتغزلة، وبین التیار الأول. ویمکن معرفة ملامح التیار الأول، ثم نتطلع إلى صیغته الممزوجة مع التیار الثالث. یقول البهبیتی "التیار الأول ویتألف من تلک الأشعار التی نظمت فی وصف الآثار الباقیة من دیار الحبیبة بعد أن زالت عنها، والبکاء عندها أو استبکاء الرکب. وهذا النوع تغمره نغمة حزینة، ترتفع حینا، وتلطف وترق، وتخف حینا وتتباعد وتجف"([21]). ویضیف فی مزجه بین التیار الأول والثالث قوله: "یتقاربان فی غایتهما، وهی تصویر لواعج الهوى، وجوى النفس بالحب من طریق الوصف العاطفی المباشر؛ فهما نوع من التصویر المجسد للعاطفة فی الأعم الأغلب، المجرد لها فی القلیل. وهو مذهب فی تحلیل العواطف ووصفها، وعرض مجریات النفس منها من طریق المناسبات، واستحضار المواقف، التی تعکس حال المحب، وتدل على هیامه وآلامه دون التناول المباشر للعاطفة نفسها"([22]). یبدو أن الحدیث عن الحب بطریقة مباشرة هو عملیة معقدة فی الشعر العربی عموما؛ فی حین أن تصویره وتجسیده یتم من طریق ظواهر ومظاهر ملموسة، ووقائع وأحداث معیشة؛ لذلک "یذکر أن مقصد القصید إنما ابتدأ فیها بذکر الدیار والدمن والآثار، فبکى وشکا، وخاطب الربع، واستوقف الرفیق؛ لیجعل ذلک سببا لذکر أهلها الظاعنین عنها (...)، ثم وصل ذلک بالنسیب، فشکا شدة الوجد وألم الفراق، وفرط الصبابة والشوق لیمیل نحوه القلوب ویصرف إلیه الوجوه، ولیستدعی (به) إصغاء الأسماع (إلیه)؛ لأن التشبیب قریب من النفوس، لائق بالقلوب، لما قد جعل الله فی ترکیب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فلیس یکاد أحد یخلو من أن یکون متعلقا منه بسبب، وضاربا فیه بسهم، حلال أو حرام، فإذا (علم أنه قد) استوثق من الإصغاء إلیه، والاستماع له، عقب بإیجاب الحقوق، فرحل فی شعره، وشکا النصب والسهر، وسرى اللیل وحر الهجیر، وإنضاء الراحلة والبعیر"([23]). ویظهر أن الوقوف على الطلل إنما هو وقوف على ذاکرة صامتة تتحدث نقوشها وتفصح رموزها عن مکنونات الذات المعذبة من ألم وفراق وحرقة الشوق. إن المتلقی هنا أمام "ظاهرة" عربیة قدیمة تنقلت فی أشعار الشعراء العرب قدیمهم وحدیثهم؛ وهی بصمة مشترکة فی الوجدان العربی؛ لذلک کانت ممتلئة بالرموز المتوارثة، وکانت دعامة لقیام القصیدة القدیمة، وتشکیل هیکلها العام. وابن عربی لم یخرج عن هذه الدائرة؛ بحیث تشبعت ذاکرته بأسباب هذا التقلید حتى قال [الکامل] ([24]):
تتمیز هذه الأبیات بنوع من "المقابلة"؛ فهو یقابل بین قدم الطلل وجدة وتجدد الصبابة؛ لنحصل فی النهایة على بنیة موضوعیة ترتکز علیها استراتیجیة استدعاء العواطف بین ثلاثة معاجم لغویة:
یقول ابن عربی فی نموذج شعری آخر [الکامل] ([25]):
إن القصیدة السابقة تُعد من أکثف القصائد، وأغزرها ذکرًا للحب، ووقوفا على آثار العاطفة، وأطلال الصبابة؛ لذا تتمیز عن القصیدة السابقة - من حیث المعجم - بکل ما أجمله البهبیتی، وقَبْله ابن قتیبة، أبو محمد عبد الله بن عبد المجید بن مسلم (276هـ)، حول المظاهر التی تتجسد من طریقها أوصاف الحب بطریقة غیر مباشرة. وفی هذه القصیدة بالذات؛ تتمظهر العاطفة مُلبّسة فی معجم الطبیعة؛ فالقصیدة لیست وقوفا على الأطلال کما یوحی بذلک مطلعها، بل رحلة ومساءلة للذات فی أطوار متعددة، وبحث مستمر عن المحبوب، ویمکن القول: إن معجم الطبیعة هو رمز ثان شبیه بالطلل یمتطیه الشاعر لفتح آفاق العاطفة، وتوسیع آفاق الرؤیا عند المتلقی/المستمع کما هو عند ابن قتیبة، فتنتقل التجربة الذاتیة مع طلل واحد، إلى ترجمة إنسانیة تعدد مظاهر الطبیعة. فإذا کان الوقوف عند الطلل وسیلة لا غایة فی قول الشاعر مجنون لیلى [الوافر] ([26]):
وفی قول المتنبی [الکامل] ([27]):
فإن الشیء نفسه ینطبق على التحرک فی أبعاد الطبیعة، فی قول لسان الدین ابن الخطیب محمد بن عبد الله بن سعید السلمانی (776هـ) [الکامل] ([28]):
وهنا یُمکن تجدید جدولَ المعجم السابق لیصیرَ على النحو الآتی:
یُمکن قراءة الجدول على أنّ شبهَ غیاب لمعجم العاطفة، وقلة معجم الذات؛ راجع إلى أن معجمیْ المکان والطبیعة شغلا حیزًا کبیرًا من اشتغال ابن عربی فی تشکیل العاطفة، وتلبیسها بتمظهرات وراثیة عن الثقافة العربیة؛ ممَّا جعله منفتحا على الوجدان العربی الذی عشق الوقوف على الطلل والرحلة فی إثر المحبوبة وتکلف أسباب العشق لها؛ سعیًا لإظهار مدى مکانة المرأة وفرادتها فی الشعر العربی بصفة عامة.
ت) رؤیا الضمائر/ کاف المخاطَب: أجمل حسین الواد مدار الحدیث فی الغزل العربی عامة فی لفظة "أحبک"؛ وتکشَّف عند هذا الطور من البحث أن حدیث ابن عربی عن الغزل یکسر هذه القاعدة إلى حد ما، وهذا ما یشکل خصوصیة الغزل عنده؛ فهو یتحدث بالغزل وعن العزل فی لفظة "أحبها". بدل لفظة "أحبک"، ونحن نجمل الفرق بین الألفاظ جمیعا فی أن لفظة "أحبک" تستدعی مخاطبة شخص حاضر فی نحو الجملة الآتیة "أحبک أنت"، وأحیانا أخرى فی لفظة "أحبهن"، أو فی نحو قول امرئ القیس من معلقته الشهیرة [الطویل] ([29]):
أما لفظة "أحبها" فتستدعی مخاطبة شخص غائب فی نحو الجملة الآتیة "أحبها هی" أو فی نحو قول جمیل بثینة [الطویل] ([30]):
والشیء نفسه بالنسبة "لأحبهن"، فی قول جمیل کذلک [الطویل] ([31]):
استعمل ابن عربی کاف المخاطب فی قصیدة "أنا الذی أشکو الکلال" استعمالا رؤیاویا واحدًا؛ بصیغة المفرد المذکر، فکانت موجهة إلى المخاطَب التجریدی "البیت العتیق"، أما فی الاستعمالات فی القصیدة نفسها، وفی مجمل الدیوان؛ فاستعملها بصیغة الجمع المذکر "لکم-إلیکم"، وکان استعمالا فنیًا؛ أی خاضعًا للضرورة الوزنیة. وسوى هذا الاستعمال الوحید فی القصیدة المذکورة؛ فلم نعثر له على أنموذج یذکر فیما یهم کاف المخاطَب. ومع طرح النماذج التحلیلیة سنبسط أثر خصوصیات الغزل عند ابن عربی من خلال لفظتی "أحبهن وأحبها" وسبب نحوه هذا النحو مع "ضمیر" المحبوبة.
ث) تطبیقات:
یقول ابن عربی [الطویل] ([32]):
یُلاحظ مع هذه القطعة الشعریة أن ابن عربی اشتغل على الضمیر المتصل "نون النسوة" فی الأفعال الآتیة: "یزن، خرجن، حسرن، لبین، أقبلن، یمشین". وهذا الاستعمال لم یکن اشتغالا فنیا؛ خاضعا للضرورات الوزنیة؛ إذ یمکن القول: إن القاعدة النحویة للضمیر المتصل فی هذه القصیدة تتناسب والقاعدة العروضیة؛ فکانت رؤیا الضمائر واضحة لا یؤثر فیها "ضمیر" دخیل، ممًا یُمکن تسمیته بالضمائر الفنیة غیر الرؤیایة. التی تضبب مشهد الحدیث فی الغزل عند ابن عربی؛ ولعل فی مقارنة أبیات ابن عربی مع بیت عمر ابن أبی ربیعة القائل [الرمل] ([33]):
تتضح الفکرة المقصودة وراء تناسب القاعدة النحویة مع القاعدة العروضیة، فهذا البیت لا یمکن قراءته إلا على النحو الذی أراده له ابن أبی ربیعة؛ فلا یمکن تغییر نون النسوة بضمیر آخر مهما کان قریبًا، وإلا انکسر الوزن وضاع المعنى بما ضاعت به رؤیا الضمائر، ولولا هذا التناسب ما عد "عمرو بن العلاء" هذا البیت على أنه أغزل بیت قالته العرب. ([34]) یتناول هذا النوع من الغزل بالوصف والتدقیق جسد المرأة موضوعا للضمیر المتصل أو المنفصل أیًّا کان "کاف المخاطب، الضمیر المنفصل أنت، الضمیر المنفصل هی، هن.." هو ما أجمله نجیب البهبیتی فی تیاره الثانی من الغزل العربی، "ویتألف من أوصاف الحبیبة نفسها، ومعظم هذه الأوصاف یتناول جسدها بکل جزئیاته، فی إطالة واستقصاء حینا، وإیجاز وإشارة حینا آخر، وقلیلا ما تناول الشاعر نفس صاحبته، وقلیلا ما مس فضائلها أو عواطفها المجردة. ویتصل بهذا الباب أیضا ذلک النحو من القصص یصف فیه الشاعر ما قام بینه وبین صاحبته من خروجها للقائه، وخروجه للقائها، وتعرضه لأحراسها وخوضه إلیها الأخطار والأهوال، ثم ما یکون فی لقائه إیاها إلى آخر ما هنالک مما عسى أن یقع بین المحبین، ومما کانت تسمح أوضاع الحیاة فی ذلک العصر بتقدیمه للناس"([35]). وإذا کانت القاعدة العامة، إذن؛ هی ذکر أوصاف المحبوبة والأخذ فی جرد محاسنها ومفاتنها فی نوع من القصصیة؛ فإن تقلب الضمائر فی بعض القصائد یُربک رؤیاویة القصیدة الغزلیة عند ابن عربی، بل قد یُربک ملامح المحبوبة ویغیبها خلف ستار الضمائر الفنیة حتى لا نکاد نمیز ملامحها وأوصافها الحقیقیة؛ یقول ابن عربی [البسیط] ([36]):
استهل ابن عربی قصیدته بالضمیر المتصل لنون النسوة فی لفظة "لعبن"؛ لکنه سرعان ما بدل "الفرض" "بالجواز" مع الألفاظ الآتیة "خلفهم، بریحهم، ذکرتهم، رکابهم"؛ أی أنه أبدل "الضمیر المتصل لجمع المؤنث الغائب "خلفهم، بریحهم..". وهذا ما شوَّش على رؤیاویة الضمائر، إذ إن هذا الإبدال خاضع لضرورات الوزن؛ أی أنها تعد ضمائرا فنیة، وإلا لکان أولى به أن یقول: "خلفهن، بریحهن، ذکرتهن، رکابهن". ویضیف ابن عربی فی القصیدة نفسها قوله [البسیط] ([37]):
وفی هذا الانتقال یُلاحظ أنه یحاول عکس إیمانه بفکرة توحید المحبوبة وإخلاص المحبة لها؛ فی ظل المغریات التی لا یلتفت لها مع باقی المحبوبات.
یتجلى هذا المذهب مع القصیدة الآتیة التی یقول فیها ابن عربی من قصیدة (نهایة الحسن) [الخفیف] ([38]):
إن تتبعَ الضمیر فی هذه القصیدة یحیل على أن المحبوبة واحدة؛ فابن عربی اشتغل على الضمیر المتصل (تاء التأنیث الساکنة) فی الأفعال الآتیة: (طلعت، تعالت، تسامت، أودعت، أنبتت)؛ مما جعل الضمائر رؤیاویة تتناسب والأوصاف التی یسوقها لمحبوبته؛ والقارئ لا یحس بوجود محبوبتین أو یرى تنافر الأوصاف فیما بینها. وفی البیت الأخیر یتحول الضمیر من تاء التأنیث الساکنة إلى کاف المخاطب، (فیک، مثلک)؛ ومع الإقرار أن هذا الضمیر الأخیر هو ضمیر فنی خاضع لضرورة الوزن؛ إلا أنه مع ذلک یتناسب مع الضمیر الرؤیاوی الذی سبقه (تاء التأنیث الساکنة) ولا یشوش علیه لسببین اثنین:
أن (کاف المخاطب) تشترک مع (تاء التأنیث) فی الإفراد؛ ممَّا زاد فی توحید المحبوبة، فابن عربی لم یقل [الخفیف] ([39]):
ویقول فی قصیدة (فلک النور دون أخمصها) [الخفیف] ([40]):
لنحاول حصر الضمائر الرؤیایة وغیر الرؤیایة لهذه القصیدة فی الجدول الآتی:
یتبین أن ابن عربی لم ینزع إلى توظیف الضمائر الفنیة فی قصیدته؛ ومن جهة أخرى فبقراءة المشهد العام للضمائر الرؤیاویة التی وظفها یتضح أنه یتحدث بصیغة "المخاطب المفرد المؤنث الغائب"، وهی صِیَغٌ کلها تحیل على توحید المحبوب؛ فکانت القصیدة لوحة مکثفة لأوصاف المحبوبة "النورانیة" تتناغم والضمائر الرؤیاویة التی تنوعت بتنوع هذه الأوصاف "الفوق بشریة".
الخاتمة والنتائج: یبقى دیوان ترجمان الأشواق لمحیی الدین بن عربی مادة أدبیة ثریة للباحثین لتناولها من زوایا أدبیة شتى، ومثَّلت الدراسة الحالیة للغزل وأبعاده الصوفیة فی ترجمان الأشواق محاولة لفهم الخطاب اللغوی الشعری لابن عربی، الذی حاول من طریقه تأسیس خطاب ممیَّز لتجربته الصوفیة وأیدیولوجیته الفکریة، بأسلوبٍ مُحمَّلٍ بالرمزیة الصوفیة، وإیحاءاتها الدلالیة التی میَّزت تجربة ابن عربی. وتوصلت الدراسة إلى النتائج الآتیة:
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
References | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الهوامش والإحالات:
1) القیروانی، ابن رشیق (ت 463هـ)، العمدة فی محاسن الشعر وآدابه، تحقیق وتعلیق: محمد محیی الدین عبد الحمید، ط1، مطبعة حجازی، القاهـرة-مصر، 1934م، ص99. 2) العلوی، ابن طباطبا (ت 322هـ)، عیار الشعر، شرح وتحقیق: عباس عبد الساتر، ط1، دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان، 1982م، ص11. 3) نقصد بالتسلیب "قلبَ علامة الإیجاب + إلى علامة السلب – فی المستوى الصوتی". 4) الزوزنی، الحسین بن أحمد بن الحسین (ت 486هـ)، شرح المعلقات السبع، تقدیم: عبدالرحمن المصطاوی، ط2، دار المعرفة، بیروت-لبنان، 2004م، ص22. 5) السابق، ص22. 6) إیغلتون، تیری، نظریة الأدب، تر: ثائر دیب، ط1، دار المدى، العراق، 2006م، ص103. 7) محیی الدین ابن عربی (558-638هـ)، ترجمان الأشواق، ط3، دار صادر، بیروت-لبنان، 2003، ص9 ص10. 8) لعمدة، ج2، ص 111. 9) أبو الفرج قدامة بن جعفر (260-327هـ)، نقد الشعر، تحقیق وتعلیق: محمد عبد المنعم خفاجی، د.ت، دار الکتب العلمیة، بیروت-لبنان، ص 134. 10) الصفحة نفسهـا. 11) محمد بن مکرم بن علی أبو الفضل جمال الدین بن منظور (630-711هـ)، لسان العرب، ط3، دار صادر، بیروت-لبنان، 1414هـ، ج11، ص 492. 12) السابق، ج11، ص 492. 13) نقد الشعر، ص 134. 14) حسین الواد، فی مناهـج الدراسات الأدبیة، ط1، منشورات الجامعة، 1984م، ص 15. 15) نجیب محمد البهـبیتی، تاریخ الشعر العربی، ط4، دار الفکر، بیروت-لبنان، 1970م، ص 148. 16) ترجمان الأشواق، ص 31. 17) ترجمان الأشواق، ص155 ص116. 18) ترجمان الأشواق، ص8 ص9. 19) ترجمان الأشواق، ص57. 20) ترجمان الأشواق، ص57. 21) تاریخ الشعر العربی، ص 147. 22) السابق، ص 148. 23) ابن قتیبة الدینوری، أبو محمد عبد اللهـ بن عبد المجید بن مسلم (213-276هــ)، الشعر والشعراء، تح: أحمد محمد شاکر، ط2، دار المعارف، القاهـر-مصر، 1967م، ج1، ص 74 ص75. 24) ترجمان الأشواق، ص 35 ص36. 25) ترجمان الأشواق، الصفحات: 71، 72، 73، 74. 26) عبد القادر بن عمر البغدادی (ت 1093هــ)، خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، تحقیق وشرح: عبد السلام محمد هـارون، ط4، مکتبة الخانجی، القاهـرة، 1997، ج4، ص 227. "الأبیات غیر مثبتة فی دیوان الشاعر مع أنهـا موجودة فی أمهـات المصادر؛ انظر: قیس بن الملوح، دیوان، روایة أبی بکر الوالبی، دراسة وتعلیق: یسری عبد الغنی، ط1، دار الکتب العلمیة، بیروت-لبنان، 1999م". 27) أبو الطیب المتنبی، شرح دیوان، عبد الرحمن البرقوقی، ط2، مؤسسة هـنداوی للتعلیم والثقافة، مدینة نصر-مصر، د ت، ص943. 28) لسان الدین بن الخطیب (713-776هـ)، روضة التعریف بالحب الشریف، تح: محمد الکتانی، ط1، دار الثقافة، الرباط-المملکة المغربیة، 1970م، ج1، ص 292. 29) شرح المعلقات السبع، ص30. 30) جمیل بثینة، دیوان، تح: بطرس البستانی، ط1، دار بیروت للطباعة والنشر، بیرت-لبنان، 1982، ص 17. 31) دیوان جمیل بثینة، ص17. 32) ترجمان الأشواق، ص54. 33) العمدة، ج 2، ص 115. 34) الصفحة نفسهـا. 35) تاریخ الشعر العربی، ص 148. 36) ترجمان الأشواق، ص 151. 37) ترجمان الأشواق، ص 152 ص153. 38) ترجمان الأشواق، ص 154 ص155. 39) ترجمان الأشواق، ص 155. 40) ترجمان الأشواق، الصفحات: 164، 165، 166.
المصادر والمراجع:
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
Statistics Article View: 302 PDF Download: 104 |